فصل: تفسير الآيات (176- 180):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (176- 180):

{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ} قرأ نافع بضم الياء، وكسر الزاي، وقرأ ابن محيصن بضم الياء، والزاي، وقرأ الباقون بفتح الياء، وضم الزاي، وهما لغتان، يقال: حزنني الأمر، وأحزنني، والأولى أفصح. وقرأ طلحة: {يسارعون} قيل: هم قوم ارتدّوا، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فسلاه الله سبحانه، ونهاه عن الحزن، وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئاً، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم، وقيل: هم كفار قريش، وقيل: هم المنافقون، وقيل: هو عام في جميع الكفار. قال القشيري، والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن، فنهى عن ذلك، كما قال الله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} [فاطر: 8] {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] وعدى يسارعون بفي دون إلى للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته، ومثله {يسارعون في الخيرات} [المؤمنون: 61] وقوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} تعليل للنهي، والمعنى: أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً، وقيل المراد: لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده، وشيئاً منصوب على المصدرية: أي: شيئاً من الضرر، وقيل: منصوب بنزع الخافض: أي بشيء. والحظ: النصيب. قال أبو زيد: يقال رجل حظيظ إذا كان ذا حظّ من الرزق، والمعنى أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً في الجنة، أو نصيباً من الثواب، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة، واستمرارها {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة، ومصيرهم في العذاب العظيم.
قوله: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي: استبدلوا الكفر بالإيمان، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} معناه كالأول، وهو للتأكيد لما تقدمه، وقيل: إن الأول خاص بالمنافقين، والثاني يعم جميع الكفار، والأول أولى.
قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} قرأ ابن عامر، وعاصم، وغيرهما: {يَحْسَبَنَّ} بالياء التحتية، وقرأ حمزة بالفوقية، والمعنى على الأولى: لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر، ورغد العيش، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد {خَيْرٌ لأِنفُسِهِمْ} فليس الأمر كذلك بل {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين}. وعلى القراءة الثانية: لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم، بل هو شرّ واقع عليهم، ونازل بهم، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم؛ ليزدادوا إثماً، فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل، وأنما نملي، وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه، أو سادّ مَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش.
وأما على القراءة الثانية، فقال الزجاج: إن الموصول هو: المفعول الأول، وإنما، وما بعدها بدل من الموصول سادّ مسدّ المفعولين، ولا يصح أن يكون إنما، وما بعده هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو: الأوّل في المعنى.
وقال أبو علي الفارسي: لو صح هذا لكان خيراً بالنصب؛ لأنه يصير بدلاً من الذين كفروا، فكأنه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً.
وقال الكسائي، والفراء: إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال: ولا تحسبنّ الذين كفروا، ولا تحسبن إنما نملي لهم، فسدت مسدّ المفعولين.
وقال في الكشاف: فإن قلت كيف صح مجيء البدل، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت: صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل، والمبدل منه في حكم المنحي، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك. انتهى. وقرأ يحيى بن وثاب: {أَنَّمَا نُمْلِى} بكسر إن فيهما، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية.
وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} جملة مستأنفة مبينة لوجه الاملاء للكافرين.
وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة؛ لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار، ويجعل عيشهم رغداً؛ ليزدادوا إثماً. قال أبو حاتم: وسمعت الأخفش يذكر كسر: {أَنَّمَا نُمْلِى} الأولى، وفتح الثانية، ويحتج بذلك لأهل القدر؛ لأنه منهم، ويجعله على هذا التقدير: ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم؛ ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم.
وقال في الكشاف: إن ازدياد الإثم علة، وما كل علة بعرض ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز، والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ، وليس شيء يعرض لك، وإنما هي علل، وأسباب.
قوله: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} كلام مستأنف، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار، والمنافقين، أي: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر، والنفاق {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} وقيل: الخطاب للمؤمنين، والمنافقين، أي: ما كان الله؛ ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض؛ وقيل: الخطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب، والأرحام، أي: ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم، وبينهم، وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: ما كان الله؛ ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات. وقرئ: {يَمِيزَ} بالتشديد للمخفف، من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل: ميزه تمييزاً {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} حتى تميزوا بين الطيب، والخبيث، فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه، فيطلعه على شيء من غيبه، فيميز بينكم، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له، لا بكونه يعلم الغيب؛ وقيل المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى} أي: يختار {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء}.
قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} أي: افعلوا الإيمان المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه: {وَإِن تُؤْمِنُواْ} بما ذكر {وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ} عوضاً عن ذلك: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يعرف قدره، ولا يبلغ كنهه. قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على قراءة من قرأ بالياء التحتية، والمفعول الأول محذوف، أي: لا يحسبنّ الباخلون البخل خيراً لهم. قاله الخليل، وسيبويه، والفراء، قالوا: وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه، ومن ذلك قول الشاعر:
إذا نُهِى السَفِيه جَرَى إليه ** وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ

أي: جرى إلى السفه، فالسّفيه دلّ على السَّفه. وأما على قراءة من قرأ بالفوقية، فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمفعول الأول محذوف، أي: لا تحسبنّ يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم. قال الزجاج: هو: مثل {واسئل القرية} [يوسف: 82] والضمير المذكور هو ضمير الفصل. قال المبرد: والسين في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة قوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} قيل: ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم. وقيل معناه: أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة، وليس من التطويق، وقيل المعنى: أنهم يلزمون أعمالهم، كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة: أي: ألزم جزاء عمله، وقيل: إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوّق به في عنقه، كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه، فليس ببخيل. قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} أي: له وحده لا لغيره، كما يفيده التقديم. والمعنى: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها، فما بالهم يبخلون بذلك، ولا ينفقونه، وهو لله سبحانه لا لهم، وإنما كان عندهم عارية مستردة! ومثل هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40] وقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}
[الحديد: 7] والميراث في الأصل: هو ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} قال: هم المنافقون، وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: ما من نفس برّة، ولا فاجرة إلا، والموت خير لها من الحياة إن كان براً، فقد قال الله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لّلأبْرَارِ} [آل عمران: 198] وإن كان فاجراً، فقد قال: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أبي الدرداء نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن محمد بن كعب، نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، عن أبي برزة أيضاً نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال: قالوا إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن به منا، ومن يكفر، فأنزل الله: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: يميز بينهم في الجهاد، والهجرة، وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} قال: ولا يطلع على الغيب إلا رسول.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى} قال: يختص.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مالك قال: يستخلص.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} قال: هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال: هم يهود.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً، فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمته- يعني بشدقه- فيقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية» وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها.

.تفسير الآيات (181- 184):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}
قال أهل التفسير: لما أنزل الله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245، الحديد: 11] قال قوم من اليهود: هذه المقالة تمويهاً على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون ذلك؛ لأنهم أهل الكتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد، فهو فقير ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} سنكتبه في صحف الملائكة، أو سنحفظه، أو سنجازيهم عليه. والمراد: الوعيد لهم، وأن ذلك لا يفوت على الله، بل هو معدّ لهم ليوم الجزاء. وجملة سنكتب على هذا مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع؟ فقال: قال لهم: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ}. وقرأ الأعمش، وحمزة: {سيكتب} بالمثناة التحتية مبني للمفعول. وقرأ برفع اللام من {قتلهم} و{يقول} بالياء المثناة تحت. قوله: {وَقَتْلِهِمُ الأنبياء} عطف على {ما قالوا} أي: ونكتب قتلهم الأنبياء، أي: قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، جعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظم، والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء. قوله: {وَنَقُولُ} معطوف على {سَنَكْتُبُ} أي: ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار، أو عند الموت، أو عند الحساب. والحريق: اسم للنار الملتهبة وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة. وقرأ ابن مسعود: {ويقال ذوقوا} والإشارة بقوله: {ذلك} إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي.
وقوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} معطوف على {مَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم} ووجه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب، وجازاهم على فعلهم، فلم يكن ذلك ظلماً، أو بمعنى: أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه، وقيل: إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن، ومعاقبة المسيء، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه، ليس بظلم عقلاً، ولا شرعاً، وقيل: إن جملة قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلام المشعر بالكثرة، يفيد ثبوت أصل الظلم.
وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتاً.
قوله: {الذين قَالُواْ} هو خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين قالوا، وقيل: نعت للعبيد، وقيل: منصوب على الذم، وقيل: هو في محل جر بدل من {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ} وهو ضعيف؛ لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه، وليس الأمر كذلك هنا، والقائلون هؤلاء هم جماعة من اليهود، كما سيأتي، وهذا المقول، وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان هو من جملة دعاويهم الباطلة.
وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان، فيقوم النبي، فيدعو، فتنزل نار من السماء، فتحرقه، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه، ولا جعله دليلاً على صدق دعوى النبوة، ولهذا ردّ الله عليهم، فقال: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ} من القربان {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين} كيحيى بن زكريا وشعياء، وسائر من قتلوا من الأنبياء. والقربان: ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة؛ ثم سلّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا} بمثل ما جئت به من البينات. والزبر جمع زبور: وهو الكتاب، وقد تقدم تفسيره {والكتاب المنير} الواضح الجلي المضيء، يقال نار الشيء، وأنار، ونوره، واستناره بمعنى.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر بيت المدراس، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم، وأحبارهم. فقال أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا، ويعطينا، ولو كان غنياً عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال: يا رسول الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص فقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقاً لأبي بكر: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ} الآية، ونزل في أبي بكر، وما بلغه في ذلك من الغضب: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً} [آل عمران: 186] الآية.
وقد أخرج هذه القصة ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة، وأخرجها ابن جرير، عن السدي بأخصر من ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتت اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] فقالوا: يا محمد أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة: أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب، وأنها نزلت فيه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله: {وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ} وهم: لم يدركوا ذلك، قال: بموالاتهم من قتل الأنبياء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} قال: ما أنا بمعذب من لم يجترم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} قال: هم اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} [التوبة: 30] قال: يتصدق الرجل منا، فإذا تقبل منه أنزلت عليه النار من السماء، فأكلته.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} قال: كذبوا على الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {بالبينات} قال: الحلال، والحرام {والزبر} قال: كتب الأنبياء {والكتاب المنير} قال: هو القرآن.